العثمانيون وبواكير الماسونية
وبينما كان من المفترض انتقال الماسونية من إنجلترا إلى جيرانها في غرب أوروبا، كانت المفاجأة هي أسبقية الشرق الأوسط في استقبال النشاطات الماسونية فوق أراضيه. فقد مثلت الدولة العثمانية بأجوائها المنفتحة، والامتيازات الأجنبية التي منحتها للأوروبيين المقيمين بها، مناخًا آمنًا افتقده الماسون في بلادهم الأصلية نتيجة الملاحقات البابوية.
في العام 1722، قام مجموعة من الماسون الجنويين (نسبة لجزيرة جنوة) بتأسيس أول محفل ماسوني في العالم العثماني داخل حي بيرا في إسطنبول. وقد ترك العثمانيون المحفل، والمحافل التي بنيت في أعقابه من قبل مجموعات أوروبية أخرى للعمل بحرية فوق الأراضي التركية، لأنهم ببساطة، لم يجدوا في نشاطات الحركة ما يضر بالسلطة العثمانية على أية حال
لكن الماسونية عملت في ظلال تلك الحرية على جذب العثمانيين أنفسهم إليها. ونجحت في النفاذ إليهم عبر اختراق الطرق الصوفية العثمانية الكبرى: البكتاشية، والمولوية، والملامتية، والتي كانت تؤمن جميعًا مثل الماسونية، بالإنسان الحر، وترفض التمسك مثلها أيضًا بالقيود الدينية الصارمة. وعبر تأليف كتيبات تشرح مبادئ الماسونية في لغة صوفية قريبة من أفهام الأتراك، واستخدام رموز صوفية في المحافل، مثل سيف بكتاش الولي (مؤسس الطريقة الصوفية البكتاشية)، نجح الماسون في ضم أفراد مهمين من النخب العثمانية إلى الحركة السرية العالمية.
في العام 1742، تأسس محفل إسكندرونة الماسوني في حلب، وضم 28 شخصًا من العثمانيين النافذين في السلطنة، لعل أبرزهم سعيد شلبي زاده، الذي عين لفترة قصيرة في الصدارة العظمى بإسطنبول.
تلقى الأتراك نفس التعاليم والإشارات الماسونية التي يتلقاها نظراؤهم في أوروبا. كما كان على كل عضو جديد، أو كما يطلق عليه في المصطلح الماسوني، “باحث عن النور”، أن يمر باختبار صعب قبل قبوله في المحفل
في يوم اختيار الباحث الجديد عن النور، يرتدي أعضاء المحفل قلنسوات سوداء، ويتجهون نحو الباحث وهم مقنعو الوجوه، ويدخل الباحث معصوب العينين، ثم يجلسونه فوق كرسي متجهًا نحو المشرق. ويواجهه المعلم بكم كبير من الأسئلة للتعرف على أفكاره الدينية والسياسية. ثم “يتم اقتياده إلي غرفة مظلمة، لا يوجد بها سوى بصيص ضعيف جدا من الضوء، يقبع في أحد أركانها هيكل عظمي. وترمز الغرفة المظلمة للرحم وللقبر في نفس الوقت، وهي صورة رمزية للظلام الذي يغلفنا قبل الميلاد وبعد الموت”.
يظهر بعد ذلك (الممهد)، “ويتحدث مع الباحث بطريقة ودية ويذكر له أن الباحث عن النور يتساوى مع الطفل المولود حديثا، والذي يدخل إلى العالم عاريا وفقيرا وأعمى روحيا، لذا يتحتم على الباحث أن يخلع ملابسه العلوية ويسلم كل الأشياء الثمينة التي معه”.
يستأنف الاختبار بعد ذلك بأسئلة جديدة يطرحها المعلم على الباحث عن النور. ويقرر في نهايتها إذا ما كان يستحق الانضمام إلى المحفل أم لا. وإذا كان يستحق، تزال من عينيه العصابة، فيجد نفسه محاطا بسيوف أعضاء المحفل، بمعنى تعهدهم بحمايته حتى النهاية. ولا يبقى أمامه سوى الجثو على ركبتيه أمام كرسي المعلم الأكبر، وتأدية قسم الإخلاص للماسونية.
تحكم الماسون في السلطنة العثمانية على مدار عصر عبد المجيد الأول. ولما مات ذلك الأخير، حاول خليفته وعمه السلطان عبد العزيز تقليص نفوذهم، فدبرت مؤامرة داخل محفل برودوس الماسوني الفرنسي بين اليوناني كالينتي سالييري، والوزير الشهير مدحت باشا، خلع على أثرها عبد العزيز في العام 1876، ثم دبرت عملية اغتياله في نفس العام، وأشيع انتحاره
انتصار الماسونية وانكسارها
على أي حال، فمن خلال اختراق العديد من الأجهزة البيروقراطية والعسكرية العثمانية، خاصة قيادة الجيش الثالث في سالونيك، نجح الشبان الأتراك، والذين سيصبح اسمهم منذ العام 1906 جمعية الاتحاد والترقي في تدبير انقلاب العام 1908، والذي أجبر عبد الحميد الثاني بعده على إعادة فتح البرلمان العثماني والعمل بدستور 1876. وفي العام التالي 1909، قام الاتحاديون بخلع عبد الحميد نهائيا وتنصيب محمد رشاد الخامس بدلا عنه. وقد أبلغ عبد الحميد بقرار خلعه 5 أفراد جميعهم من الماسون.
احتفالا بسيطرتهم على إسطنبول، قام العثمانيون الماسون بتأسيس المحفل العثماني الأكبر، وتعيين طلعت باشا رئيسًا له. وهو نفسه الصدر الأعظم طلعت مهندس إبادة الأرمن في العام 1915، وواحد من ثلاث باشاوات حكموا إسطنبول الماسونية إلى نهاية الحرب العظمى، إلى جانب كل من أنور باشا وزير البحرية العثماني، وجمال باشا قائد الجيش الرابع في سوريا.
كانت خسارة الباشاوات الثلاثة في الحرب العالمية الأولى نهاية للماسونية العثمانية، ومعها نهاية السلطنة نفسها التي أُعلن إلغاؤها في العام 1923. ولكن ذلك كله لم يعن نهاية الماسونية في الشرق، حيث استمرت تعمل بكامل طاقتها حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية في البلدان العربية من العراق إلى الشام إلى مصر. وأصبحت أهدافها الجديدة عبر تلك البلدان هذه المرة تهيئة الأجواء لتأسيس دولة إسرائيل فوق أرض فلسطين المُغتصبة