العمق الاستراتيجي والحضاري لتركيا في السياق التاريخي
هناك المئات من الدراسات والأبحاث التي اهتمت بتركيا، وتناولت الأهمية الاستراتيجية التي يحتلها هذا البلد الذي يقع في قلب العالم، ويجمع بين كل الممرات البرية والبحرية، الى درجة أن نابليون بونبارت اعتبر أن مركز العالم هي استانبول، هذه المدينة التي تختزل في داخلها كل مظاهر الصراع بين كل القوى عبر التاريخ، و تشكل المحور الاستراتيجي لكل القوى الدولية والتوازنات الإقليمية والعالمية. تركيا بعمقها الاستراتيجي كانت و لاتزال محط أطماع كل الدول الراغبة في السيطرة على العالم من خلالها.
لقد لعبت تركيا عبر التاريخ دورا استراتيجيا في التأثير على السياسة الدولية وفي طبيعة التوازنات الاقليمية والدولية . لذلك كانت خصوصا في عهد االدولة العثمانية أهم محور استراتيجي استطاع من خلال موقعه الجغرافي أن يتمدد في أعماق القارة الآسيوية والإفريقية والأوروبية، ويهزم عدة قوى دولية كبرى .
لقد أدرك العثمانيون منذ أن كانوا إمارة صغيرة أهمية هذه المنطقة من الناحية الاستراتيجية، وأنها تمثل أهم مركز استراتجي يمكن أن يتحكم في كل دول العالم، وكانت هذه القناعة راسخة في عقول وفي وجدان كل السلاطين العثمانيين. وما كان إصرار محمد الفاتح على فتح مدينة القسطنطينية إلا نابعا من قناعة أن السيطرة على هذه البقعة من العالم تعني السيطرة على الخارطة الجغرافية والاستراتيجية لكل الصراعات في العالم .
يمكننا القول إن العثمانيين كانوا يملكون تفكيرا استراتيجيا عميقا أهلهم إلى بناء دولة كبيرة سيطرت على أهم المناطق المهمة في العالم، وتحكمت في كل التوازنات الدولية، ولعبت دورا أساسيا في صياغة نظام عالمي كانت تركيا والدولة العثمانية هي مركزه الاستراتيجي والمتحكم في كل سياساته.
وقد استفادت أوروبا كثيرا من الاستراتيجة العثمانية، وأسست مراكز دراسات اعتنت بشكل خاص بالتفكير الاستراتيحي للدولة العثمانية وفهم الياته وأسسه. وعلى عكس الدراسات والأبحاث التي تنسب ظهور التفكير الاستراتيجي الى الأوروبيين فاننا نجزم بأن مدرسة التفكير الاستراتيجي ظهرت في منطقة الأناظول وتطورت مع الدولة العثمانية. وكان السلاطين العثمانيون من أمثال الغازي عثمان ومحمد الفاتح والسلطان ياووز والسلطان سليمان القانوني وصولا الى السلطان عبد الحميد الثاني كانوا هم رواد هذه المدرسة الاستراتيجية التي نشأت وترعرعت بشكل عملي في واقع يكتسي أهمية استراتجية كبيرة للخارطة الجيوستراتجية والجيوسياسية في العالم.
من جهة أخرى استطاع الغرب الذي طور تفكيره الاستراتيجي أن يهزم الدولة العثمانية وينهيها من خلال خلق ما يسمى بالاستراتيجية المضادة التي نجحت في تقسيم الدولة العثمانية واضعاف الفعل الاستراتيجي لتركيا، وتحويلها الى ممر وكوريدور دولي تستخدمه القوى الاستعمارية للهيمنة على العالم الاسلامي. وتجلى هذا الأمر مع الانقلاب الذي قادته جماعة الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد الثاني صاحب مشروع الجامعة الاسلامية.
كما تجلت هذه الاسترتيجية المضادة أكثر مع ظهور الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك والتي كانت بمثابة الاعلان عن موت تركيا استراتيجيا وتحويلها الى أداة يستخدمه الاستعمار للهيمنة على المنطقة. لقد ساهم قادة الجمهورية الكمالية في إضعاف تركيا استراتيجيا وإفقادها أي دور ريادي في السياسة الدولية حتى أصبحت تركيا منذ 1952 هي القاعدة العسكرية التي تحاك فيها كل المؤامرات والاستراتيجيات الغربية للتحكم في العالم الاسلامي، واستسلمت تركيا للقوى الاستعمارية.
وساهمت كل المحاولات الانقلابية في تركيا بقيادة الجيش في تهميش دور تركيا استراتيجيا رغم أن هناك محاولات من بعض القادة السياسيين من أمثال عدنان مندريس، وطورغت أوزال، ونجم الدين اربكان الذين أرادوا تفعيل دور تركيا استراتيجيا لكنهم فشلوا في ذلك لأن حجم التوازنات الاقليمية والدولية كانت أكثر تعقيدا واكثر تشابكا ، وكذلك لغياب إرادة سياسية حقيقية تؤمن بإعادة صياغة سياسة استراتجية جديدة لتركيا في المنطقة وفي العالم.